قصة التاجر الغني والحمال الفقير- من روائع القصص

قصة التاجر والحمال



في عهد الخليفة هارون الرشيد، بلغت بغداد قمة المجد والازدهار، وانتشرت العلوم والحضارة في شتى بقاع الإمبراطورية الإسلامية، وعجت مدن الإمبراطورية وموانئها بحركة تجارية وثقافية واسعة، وكانت البصرة، المطلة على الخليج العربي إحدى هذه المدن، تؤمها السفن من الهند وبلاد الشرق الأقصى حاملة الجواهر والتوابل والبخور والحرير، وكان تجار البصرة ونواحيها يشترون البضائع النفيسة وينقلونها في قوافل عبر الصحراء، إلى بغداد ومدن حوض البحر المتوسط الغنية، كانت المدينة بمختلف احيائها تزخر دوما بالحركة، قوارب وسفن تصلها معبأة بنفائس الشرق، وقوافل الإبل الناشطة تغادر بالاتجاه الآخر، ومع القادمين والمغادرين قصص البحر الشاسع، ومغامرات الصحاري الفسيحة بسحرها ومخاطرها، لقد كانت الحياة في المدينة متعة وتحديا معا.
عبد الله وابراهيم وهما صغار

وكان من سكان أحد أحياء هذه المدينة الصبيان عبد الله وابراهيم، اللذان دأبا على الاستمتاع بما يجري حولهما، ففي كل يوم، بعد عودتهما من المدرسة، كانا يقصدان الميناء لمراقبة السفن تفرغ حمولتها النادرة من نفائس وأفاويه، وأحيانا كانت السفن تحضر حيوانات غريبة كالسعادين والطواويس والببغاوات، لقد تعززت أواصر الود بين عبد الله وإبراهيم حتى غدا الغلامان وكأنهما أخوان، ومرت الأعوام، وشب الغلمان عن الطوق، وزاول كل منهما حرفة يكسب منها يعزز دخل العائلة، فلم تكن كلا أسرتيهما من أصحاب الثراء.
عبد الله يعمل أجيرا عند تاجر

اشتغل عبد الله أجيرا عند تاجر في سوق المدينة يتعامل بمختلف أصناف التجارة، من أفاويه والحرير والسجاد والأحذية والنحاسيات والفضيات إلى زيت الطبخ والسمك المجفف، وبحكم عمله، عبر عبد الله الصحراء عدة مرات برفقة قوافل تضم مئات الإبل المحملة بمختلف السلع، فزار دمشق والقدس وحلب والقاهرة، وكان في كل مرة يعود بأخبار وحكايات تلك المواقع وبربح وفير تزايدت به حظوته عند سيده، وسرعان ما أتقن عبد الله سر مهنته، فراح يشارك هو بتجارة خاصة مستقلا عن سيده، ولم يمض طويل وقت حتى أصبح هو من التجار المرموقين، فتزوج فتاة من أهل الثراء، وتملك قطعة أرض كبيرة، في الحي، شاد عليها قصرا فخما فسيحا زينت ساحاته بالآجر المزخرف والنوافير الرخامية وفي حاشية من الخدم والحشم انتقل عبد الله وزوجته وولده حامد إلى قصرهم الجديد، وفي تلك الأثناء، قلما وقعت عينا عبد الله على صديقه القديم إبراهيم، رغم أنهما ما زالا جارين، والحقيقة أن عبد الله كان كلما صادف إبراهيم تابع السير متظاهرا بأنه لم يره.
ابراهيم وعائلته المتواضعة

 لقد اختار إبراهيم العمل في إفراغ السفن على أرصفة الميناء منذ التحق صديقه عبد الله بمولاه التاجر، ولم تتحسن حاله كثيرا طوال تلك المدة، لقد ظل يروق له منظر المراكب تعبر الميناء أو تغادره، لكن ما عاد يهزه منظرها مثقلة بالحمولة، لأن إفراغها كان يقع على عاتقه وعاتق زملائه، لقد كان إبراهيم حمالا من مئات الحمالين في الميناء، يرزح في حرارة الشمس، ويتفضج عرقا تحت أكياس الدقيق والأرز والأفاويه والفاصولياء، وكان يتقاضى بما يحمل، لكن دخله ظل ومحدودا رغم الكثير الذي كان يحمله، كان إبراهيم لا يزال يعيش في بيتهم القديم مع والدته العجوز وزوجته وولديه صلفيناز وعامر، وكان العسر يحيق بهم، جدران البيت المتداعية، والسقف يدلف كلما كانت تمطر، والدخل الشحيح، لكنهم تعودوا أن يتحملوا ذلك كأنه قدر أجيال الفقراء أمثالهم، سابقا ولا حقا، وكان باستطاعة إبراهيم وعائلته رؤية الأشجار الوارفة الظلال في الحدائق حول بيت عبد الله، ولم يكن إبراهيم يحسد عبد الله على ذلك، بل على العكس، فقد كان نجاح صديقه مدعاة لسروره، ولم يكن إبراهيم على علم بمدى الغنى الذي حققه صديقه، فهو يلمحه في السوق من حين لآخر، وماحدث أن دعاه هذا قط لزيارته في منزله، ومرت الأعوام وكبر أبناء العائلتين، وسار حامد في خطى والده عبد الله، وحقق من النجاح ما بشر أنه يجاريه، وذات يوم أتى حامد والده قائلا : يا أبت لقد بلغت السن التي ينبغي أن يفكر الشاب فيها بالزواج، هل فكرت لي بالفتاة التي تراها مناسبة لي ؟
حامد ووالده عبد الله

لقد جرت العادة في تلك المدينة، كما في أنحاء كثيرة من العالم، أن يقوم الوالدان اختيار العروس المناسبة لابنهم، وكان عبد الله وزوجته قد بدآ التفكير فعلا في الأمر، لكن اختيارهم لما يقع بعد على الفتاة والعائلة المناسبة، أطرق عبد الله قليلا أمام طلب حامد ثم أجاب : سأتدارس الأمر مع والدتك، أخذت زوجة عبد الله تبحث عن الزوجة المناسبة لولدها بحماس شديد، فراحت تزور الأسر الصديقة ومعارف الأسر الصديقة تنقد بناتهم بهدوء، لكن فتاتها المنشودة لم تكن بينهن، فهذه صغيرة على حامد، وتلك تفوقه سنا، وهذه تئقة نزقة، وتلم مدلعة مدللة، والأخرى متطلبة نكدة، فلن يسعد حامد مع أي منهن، والوحيدة التي نالت الرضى كانت مخطوبة بعقد مكتوب، في البداية، لم تكن ام حامد تطلع أحدا على الغرض من زياراتها، لكنها اضطرت بعد افاق مساعيها، إلى الاستعانة بالمقربات من الصديقات لايجاد الكنة العتيدة، وفي يوم جاءت احدى الصديقات الى أم حامد تقول : أتعرفين صافيناز ابنة إبراهيم، صديق الطفولة لزوجك عبد الله ؟
أم حامد تزور عائلة ابراهيم

إنها لؤلؤة، قمر بين النجوم خلقا وخلقا، إنني على ثقة أنك لو تقابلينها فلن تحتاجي إلى المزيد من البحث، إن ولدك سيكون بها أسعد الرجال، وعرضت أم حامد الفكرة على زوجها، مرتئية أن فقر إبراهيم لا ينبغي أن يكون حجر عثرة في سبيل سعادة ولدهما، فإذا كانت صافيناز حقا كما تصف الصديقة، فمال عبد الله كفيل بكفاية العائلتين، ولم تلبث أم حامد أن أرسلت خادما إلى بيت ابراهيم يعلمهم مسبقا بزيارتها، وفي اليوم التالي كانت أم حامد ضيفة معززة في بيت إبراهيم المتواضع، وكانت حريصة ألا تبوح لمضيفتها بالسبب الحقيقي لزيارتها، فأدارت الحديث عن الأيام الخوالي مستعيدة ذكرى صداقة القديمة بين زوجيهما، وجلست السيدتان تشفان القهوة وتتبادلان أطراف الحديث، وحين جاءت المضيفة على ذكر ابنتها صافيناز، أعربت أم حامد عن رغبتها في رؤية الفتاة، وما إن وقعت عيناها على صافيناز حتى أدركت أن ماتقوله الصديقات عنها يقصر عن الواقع، وقدمت المضيفة ابنتها إلى ضيفتها بشيئ من الاعتزاز قائلة : هذه هيا ابنتي صافيناز، ثم وجهت الكلام إلى ابنتها قائلة : قربي سلمي على جارتنا زوجة صديق أبيك القديم، ووسط ذهولها بما رأت، راحت أم حامد ترتجل بضعة أسئلة وجهتها إلى صافيناز، فكان إعجابها بها يتزايد مع كل كلمة من أجوبتها، وتماوجت الأفكار في رأس أم حامد تقول إنها حقا رائعة، قمر بين النجوم، كيف غاب هذا الجمال والكمال عن انتباهنا ؟ إنها العروس المنشودة، وأمام هذا الموقف لم تستطع أم حامد إلا الكشف عن الغرض من حضورها وإلا الإعلان أن ما كانت تنشده قد وجدته، وامتدت يدها إلى جيبها تسحب صندوقا فضيا صغيرا قدمته إلى صافيناز قائلة : أريدك أن تحتفظي بهذا الصندوق، أنه لك، فقط عديني أنك ستدرسين عرض ولدي الزواج منك، فكري مليا في هذا العرض، وتطلعت صافيناز نحو والدتها قبل أن تتسلم الصندوق، وحين أومأت الأم إيجابا تناولت الابنة الصندوق قائلة : أعدك، بكل سرور، كان في الصندوق ثلاثة خواتم رائعة الترصيع وعقد فاخر أسماطه من أسلاك الذهب والفضة، وحباته من الزمرد والياقوت والماس تبهر الأنظار، إنها حقا هدية لا تقدر بثمن، بعد انصراف أم حامد، جلست صافيناز وأمها تنتظران بلهفة وفارغ صبر عودة إبراهيم من عمله، وما إن عتب هذا الباب حتى راحتا تخبرانه، دون توقف، بما حدث، وأرتاه أيضا الحلي الرائعة في صندوقها الفضي، فطمأن إبراهيم لهفتهما قائلا : أنباء طيبة، ونسب مشرف، لكن بعد مزيد من التفكير والتأمل أخذت الشكوك تساور إبراهيم حول عرض الزواج هذا، فراح يقول في نفسه : كيف تم هذا الأمر بهذه السرعة ؟ هل يريدون حقا أن يتزوج ولدهم في أسرة فقيرة كأسرتنا، إني أشك جدا في ذلك، ولم يستطع إبراهيم مع تزايد ارتيابه إلا أن يصارح امرأته على انفراد بذلك، فقال : لن أفجأ يا أم عامر إذا غير الجيران رأيهم، ولن أستغرب أن يطلبوا استعادة الجواهر آجلا أو عاجلا، وما أسرع ان تحققت شكوك إبراهيم وحدسه، فما إن عادت زوجة عبد الله إلى البيت حتى نادت زوجها وولدها، لتنبئهما بلهفة وحماس أخبار صافيناز، لكنت الاثنين قابلا الأنباء ببرود، ورد حامد قائلا : أتركيك من هذا يا أماه، فتشي لي عن فتاة من عائلة عريقة ذات مكانة وثراء، تعرف أساليب التجارة والتجار، فذلك أهم لدي بكثير مما تصفين، وعبثا حاولت الأم إقناع ولدها وزوجها، حتى بدراسة الفكرة، ولم تجرؤ أمام تعنتهما أن تخبرهما بأمر الهدية الثمينة التي قدمتها إلى صافيناز، وكان عليها لتفادي غضبهما، استعادة صندوق الجواهر الذي تصرفت به دون استشارتهما، فبعثت لذلك خادما إلى بيت إبراهيم في اليوم التالي، طبعا لم يخطر ببال عائلة ابراهيم رفض الطلب، فسلموا صندوق الجواهر إلى الخادم الذي جاء لاستعادته، وكان ذلك إيذانا بأن مشروع الزواج قد ألغيـ وتغرغرت عينا صافيناز بالدمع، فحاولت الأم مواساتها قائلة: إنه لمن الأضل لك ألا تتزوجي رجلا من عائلة لا تحسن التصرف وهز إبراهيم رأسه موافقا، أما عامر أخو صافيناز فقد كان وقع الإلغاء عليه صدميا عنيفا، فانتفخت أوداجه غضبا وغيظا وهو يصيح، لا أستطيع احتمال هذا، حين أخبرت رفاقي أن صافيناز ستتزوج من حامد بن عبد الله سخروا مني ولم يصدقوني، فماذا سيكون موقفي أمامهم الآن ؟ لقد جلب عبد الله العار على عائلتنا، وإني لأشعر أنه قد أذلني أنا شخصيا، لن يكون لي بقاء في هذا البلد بعد اليوم، إني راحل مع القافلة التالية المتجهة غربا، صباح اليوم التالي كان عامر يودع والديه وأخته، ولم يحمل عامر معه إلا القليل من الحوائج والزاد، مما يسهل حمله، حين انطلق إلى خان القوافل في البلدة يستفسر عن موعد سفر القوافل، فأجابه قيم الخان بلطف، للأسف يا ولدي، لقد انطلقت القافلة المقررة لهذا الأسبوع ليلة أمس في طريقها إلى حلب، وأظنهم سيقضون يومهم في واحة حامز، ولعلك لو تجد السير تلحق بهم إلى هناك قبل أن يغادروا، ولم يتردد عامر في اتخاذ الطريق الترابي إلى واحة حامز، وكان هواء الصباح لا يزال معتدل الحرارة وهو يتجاوز ظلال أسوار المدينة، لكن ما إن صعدت الشمس فوق الأفق حتى راحت تصب هجيرها الافح فوق البطاح الجفيفة والصخور الجرداء، لكن حرقة الدمع في عيني عامر أغفلته عن قطرات العرق التي كان يتفصد بها جسده، لم يكن يفكر إلا بالإذلال الذي ألحقه عبد الله به وبعائلته، ومن على ربوة حصباوية لحظ عامر عن بعد ثلة من الخيالة تخب نحو المدينة باتجاهه، ولم يأبه عامر لهم إذ مروا به إلا حين توقفوا وعاد كبيرهم ليتوقف بفرسه أمامه، قائلا بلطف : ما بك يا غلام ؟ ولماذا عيناك غارقتنا بالدموع ؟ هل ألم مصاب بالمدينة ؟
عام مع رجل الملتحي الغريب

كان المتحدث رجلا ملتحيا طويل القامة متألق العينين، تتماوج ثيابه الحريرية الفاخرة كلما شب فرسه متوثبا يضرب الأرض بقدميه، ورد عامر : لا يا سيدي لم يصب المدينة ضرر، إنما الضر ما أصاب عائلتي من إذلال وضيمن لم أستطع احتمالهما فرحلت، وسألحق بالقافلة المتجهة إلى حلب قبل استئناف مسيرها من واحة حامز، وقاطعه السيد الملتحي قائلا : ولكن يا ولدي القافلة قالتنا مع الفجر منطلقة من الواحة، وستكون الآن بعيدة جدا عنها، ومن المستحيل اللحاق بها، ولحظ السيد الأسى يغمر وجه عامر فتابع يقول : إت تابعت سيرك في الصحراء وحيد فإنك هالك لا محالة، قل لي ما هو الحيف الذي حل بأهلك ؟هل هو بالغ الخطورة إلى هذا الحد ؟ تعال سر معي وحدثني عما جرى، وترجل السيد عن فرسه، وسار معه عامر عائدا باتجاه البحر وأسوا المدينة، وباح عام للسيد بمكنونات صدره، حول الإهانة الفظة التي طالت أخته البريئة صافيناز، وأبدى السيد أبو لحية عطفا متزاديا نحو عامر وقال : أرغب في زيارة عائلتك، وبصحبتك يا عامر، علي أجد سبيلا لمساعدتكم، وفوجئ عامر بهذا العرض، فأجاب متلعثما، لكن أيها السيد الماجد، نحن أناس فقراء، وأنى لنا أن نهيئ لك الاستقبال الذي يليق بمقامك، لا عليك أجاب السيد، فالاستقبال الودي البسيط أعز لدي من أي حفاوة وتأهيل، وهكذا عاد عامر إلى بيتهم، فقدم والده المتلهف لعودته غلى السيد الماجد، وقضوا الأمسية في جلسة رائقة على سطح البيت يشفون القهوة ويتسامرون بأخبار البلاد وأحوال العباد، وبينما السيد يغادر بيت إبراهيم مرورا بالمطبخ، وقعت عينه على صافيناز في لمحة عابرة، فقال في نفسه : إنها نادرة الجمال حقا، ودع السيد مضيفه عند الباب قائلا : لقد كانت هذه الأمسية أبهجتني كثيرا، إن ورائي أشغالا هنا ينبغي إتمامها، لكن قب مغادرتي آمل أن تسمحوا لي بزيارتكم ثانية، حبا وكرامة أجاب إبراهيم : إن ذلك سيبهجنا ويشرفنا، أيها الماجد، وكانت عودة السيد بعد عدة أيام مفاجأة للجميع، لقد كان الماجد أبو لحية يرتدي أفخر الثياب وبرفقة اثنان من الفرسان في لباسهم الرسمي، وكان بين يدي كل مرافق صندوق من الخشب الفاخر مرتج بقفل من الفولاذ الصقيل، وخاطب الماجد إبراهيم قائلا : لقد جئت أطلب يد ابنتك يا أبا عامر، إذا هي ترضى بي زوجا، وذهل إبراهيم لهذا الطلب، وأسرع يستدعي زوجته التي لم تستوعب الموقف على التو لفرط تأثيرها، لكنها سرعان ما أعدت صافيناز لمقابلة زائرهم الكريم، كان الصندوقان مليئين بالهدايا الأسطورية، حلي ومجوهرات من كل صنف، اكياس من القطع النقدية الذهبية والفضية، وصرر زاخرة بالحجارة الكريمة المتألقة، لم تكن النفائس لتجتذب اهتمام صافيناز، فهي لم تعرها سوى نظرة عابرة، لقد أسر الرجل الذي جاء يخطبها، قلبها من النظرة الأولى، فشعرت في قرارة نفسها أنها تحب هذا الرجل، وقطع الماجد الملتحي على الجميع ذهولهم موجها كلامه إلى آل العروس: ظروفي ستطيل الخطوبة بضعة أشهر، علي أن أتمم مهماتي وواجباتي في كامل المنطقة، وسأبعث إليكم في كل أسبوع مزيدا من الهدايا لا لتدخروها، بل لتنفقوها على حاجاتكم وتحسين أوضاعكم، وعند عودتي، آمل أن صافيناز سترضى بي زوجا، ولست أسألكم، ولا حتى أتوقع منكم، وعودا بذلك الآن، وبهذا الخطاب غادر الماجد أبو لحية ليستكمل سفراته، وفي كل أسبوع كان يطرق باب بيت أبي عامر خيال لتسليم الصندوق الموعود بما فيه من هدايا نفيسة، ولم يمض طويل الوقت حتى تسنى لابراهيم وعائلته شراء بيت فخم في الجانب الآخر من البلدة، تحيط به الحدائق الغناء والساحات المزينة والمبردة بنوافير الماء المتدفق، وتابعت العائلة حياة البساطة المتواضعة، كما من قبل، رغم ما أصابوا من ثراء، وكان يشغل بال صافيناز التفكير بسر شخصية زوج المستقبل، إنه لم يحدثهم إلا بالقليل جدا عن نفسه، وكأنه يتعمد إبقاء هويته وطبيعة عمله سرا غامضا، كل ما توصلت إليه هو استنتاج عام أن خطيبها، لا بد أن يكون تاجرا فائق الغنى، أغنى من اي تاجر في البلد، أغنى حتى من عبد الله نفسه، وفي تلك الأثناء كان عبد الله وزوجته يواصلان البحث عن الزوجة المناسبة لولدهما حامد، وكان وجهاء البلدة، والتجار بخاصة، منشغلين جدا براسيم الزيارة التي يقوم بها سلطان المنطقة، فقد كان من عادة السلطان شط العرب أن يجول أرجاء المنطقة، مدينة مدينة، يبحث مع قادتها ورؤساء دواوين الشرطة فيها، شؤون الناس وشكواهم وأحوالهم، وتتميز هذه الزيارات عادة بالمآدب الفخمة العامرة التي يتنافس التجار والوجهاء فيها، تعبيرا عن أريحيتهم وإكرامهم لسمو السلطان، وقد أتاحت هذه الأيام الحافلة بالنشاطات الاجتماعية الفرصة، أمام أم حامد لمقابلة مزيد من وجيهات البلد وبناتهن، وتم لها أخيرا إيجاد التي تتوافر فيها مواصفات ولدها حامد وزوجها عبد الله، وباحثت أم حامد زوجها وولدها في أمر الفتاة، فوصفتها بأنه لا بأس بجمالها، وأنها حادة المزاج نوعا ما، ولعلها في عمر حامد أو تكبره قليلا، لكنها من بيت بالغ الثراء والوجاهة، ولم يشأ عبد الله إضاعة مزيد من الوقت، فتقدم في اليوم التالي يخطبها من أهلها الذين لم يترددوا في القبول، وتحدد موعد الزفاف، وأراده أبو حامد احتفالا لم تشهد له المدينة مثيلا في زمانها، وجرى توزيع الدعوات للحفلة، ولم تكن أم حامد لتنسى دعوة إبراهيم وعائلته، ولو أنها لم تتصل بهم أو تسمع شيئا عنهم منذ حادثة الجواهر المحرجة، وحمل الخادم دعوة إلى بيت إبراهيم القديم، فأنبأه أحد الجيران أنهم غادروا الحي، وتكرم بإرشاده إلى مقر إقامة العائلة الجديد، وطمأن الخادم سيدته إلى أنه قد أوصل الدعوة إلى أصحابها لا في بيتهم القديم، بل في منزل فخم في الحي الآخر من المدينة، وبعثت أم حامد خادما آخر ليتأكد من النبأ، وليقتضي لها مزيدا من أخبار إبراهيم وعائلته، وعاد الخادم بتقرير واف جلب اهتمام كل أفراد العائلة، قال : أخبرني الجيران أن عائلة إبراهيم، انتقلت إللا ذاك المنزل منذ شهر، ويبدو أنهم على قدر عظيم من الثراء فهم كرماء جوادون، وهم طيبون جدا ويستقبلون من يزوروهم بكل ود وترحاب، وراح أفراد العائلة يتساءلون، كيف حدث هذا ياترى ،وبمنطق مصانعي الظروف تمت عبد الله يقول : واضح أنا أهملنا صديقنا القديم إبراهيم، لقد آن الأوان كي أزوروه، وفي بعد ظهر اليوم نفسه كان عبد الله ضيفا في منزل صديقه القديم الذي استقبله ببالغ الحفاوة والتكريم، لقد بهت عبد الله بما رأى، وحدثته نفسه بأن من يملك مثل هذا البيت القصر لا بد أن يكون في مثل ثرائه هو وأزيد، وتلاحق التساؤلات من أين ؟ في رأسه، ولم يقطع عليه ذهوله إلا طلة صافيناز تضيفه القهوة والبقسماط، وكان ذهوله بها أعظم، وقال هاجس في نفسه : إنها حقا ملاحة يعز نظيرها .
وعند انصراف صافيناز قال عبد الله بشيئ من الارتباك : يا تبارك الله هل خطبت كريمتكم يا برهوم أو بعد ؟
عبد الله وابراهيم

وأجاب إبراهيم : لقد أسعدنا الله بسيد ماجد تقدم لخطوبتها، إنه لخير زوج تحلم به فتاة، وحول إبراهيم دفة الحديث متابعا : إن ابنكم حامدا مقبل أيضا على الزواج، وهذا نبأ أسعدنا، والواقع أنا قد أعددنا له هدية زفاف، ويسعدنا أن نكلفك بحملها إليه، وعاد عبد الله بالهدية إلى ولده، والنساؤلات تراود خاطره، وفي البيت فتح حامد الهدية، طقم سفرة رائع من الفضة الخالصة، أبهى ما يمكن أن يشترى بالمال، ولم يخف عبد الله خبايا صدره عندئذ، ففاجأ ولده قائلا : لقد ارتكبنا خطأ شنيعا، صافيناز ابنة إبراهيم، هي الفتاة المناسبة لك الآن يجب أن نلغي ترتيبات زفافك الموعود فورا، وانتشر نبأ إلغاء زفاف حامد بن عبد الله بعد أن أوشكت الاستعدادات له أن تتم وسط دهشة سراة البلد وتساؤلاتهم، ولم يمض طويل وقت حتى قصد عبد الله بيت إبراهيم يخطب ابنته صافيناز لابنه حامد متجاهلا ما مضى، زاعما أن هذا الزواج الميمون سيوحد العائلتين ويعيد صداقة الماضي مخطوبة، ونحن قبلنا الخطوبة وباركنها، وباتسم إبراهيم وهو يرد على الصديق قائلا : كم يشرفني هذا العرض لكن صافيناز مخطوبة ونحن قبلنا الخطوبة وباركناها، وقاطعه عبد الله : ولكن باستطاعتك أن تغير ذلك بالتأكيد، ورد إبراهيم ببرود : للأسف يا صديق، لن نفعل ذلك، فنحن ما تعودنا ان نجحد الفضل ولا أن ننكث الوعد، وراح يروي له قصة الماجد الملتحي صهر المستقبل، كانت الأنباء التي عاد بها عبد الله مخيبة لآمال العائلة، وبخاصة أم حامد التي صرخت غاضبة، ومن يكون هذا السيد أبو لحية ؟ لا أظنه إلا ساحرا أو جنيا متقمصا، ثم لم لم تككرهم بأنهم سبق وقبلوا خطوبتنا، نعم، فنحن غيرنا رأينا لكن الوعد يبقى وعدا، يجب أن يفهموا ذلك، وعلى الأثر دب الخلاف بين العائلتين، وتمسك عبد الله بما ادعته امرأته من أن صافيناز كانت قبلت خطوبة حامد، وراح يشيع في المدينة أن صافيناز قد أخذت بسحر ساحر، أفسد العائلة بهداياه الفتانة، وصرح بأنه سينتهز فرصة زيارة السلطان المنتظرة ليعرض القضية عليه، جلس السلطان يستمع إلى شكوى عبد الله بجدية ووقار، وبع استعراض الشكوى قال السلطان : العدل يقتضي أن نسمع أقوال الفتاة نفسها، واستدعيت صافيناز إلى حضرة السلطان بصحبة والدها، وجرى استجوابها من وراء حجاب، كما جرت العادة، بدأ السلطان : أيتها الفتاة، عليك أن تردي على التهمتين ؟
أولا أنت متهمة بنكث وعد بالزواج من حامد بن عبد الله ؟ بماذا تردين ؟
فردت صافيناز قائلة : لا يا سيدي، لم يصدر عني مثل هذا الوعد، كل ما في الأمر أني وعدت بدراسة عرض الزواج، ذاك الذي أرفقته السيدة أم حامد بعربون من الحلي، لكنها طلبت استعادة الحلي في اليوم التالي، فأعدتها وطبعا لم يعد لي هناك ما أدرسه، والتفت السلطان إلى عبد الله يستفسره، فأجاب هذا متلعثما ومرتبكا : إن زوجتي لم تشر إلى موضوع الحلي مطلقا، لقد كتمت ذلك عني، وتابع السلطان : ردك يا فتاة أسقط التهمة الأولى، فما قولك في الثانية ؟ أنت متهمة بمشروع زواج من ساحر يلفه الغموض، هيا صفي لنا هذا الرجل الغامض، فردت صافيناز : إنه رجل حسن الطلعة كأبهى الرجال، طويل، قوي، حلو الشمائل، طيب النفس، وقاطعها السلطان مضيفا : ولكن هل هو رجل عادي ؟ صفي لنا مظهره، صفي لنا يديه مثلا، هل هما كيدي أو مختلفان ؟
صافيناز تحدث السلطان من وراء الستار

ومع سؤاله ذاك، مد السلطان يديه لتراهما صافيناز من وراء سترها، وردت صافيناز : إن يديك شبيهتان بيديه يا مولاي، وصوته أردف السلطان : هل هو مثيل لصوتي أو مباين له ؟ وردت الفتاة : بل إن صوته مثيل لصوتك، كأنه هو
وتابع السلطان : ووجهه ؟ هلا وصفتيه ؟ هل هو شبيه وجهي ؟، وعند السؤال وقف السلطان، كي يتسنى لصافيناز رؤية وجهه، وهنا هتفت صافيناز بصوت متهدج : إنه أنت، إنه أنت يا مولاي السلطان، وغصت القاعة بشهقات التعجب وتكبير الحاضرين، وحين هدأت موجة الاستغراب التفت السلطان نحو عبد الله قائلا : أعتقد أن القضية حسمت لمصلحة المتهمة، إلا إذا كنت يا عبد الله تظنني ساحرا، ثم التفت السلطان إلى إبراهيم متابعا كلامه : وأنت يا إبراهيم، نترك لك حرية اختيار الحكم، الذي يقوم ما أنزل له عبد الله بعائلتك من ضر، عقوبة أو غرامة، وتطلع إبراهيم نحو عبد الله، الذي كان يطرق عينيه خجلا، ثم نحو السلطان قائلا : لا أطلب لعبد الله عقوبة ولا منه غرامة، وأرى أنه قد عانى ما فيه الكفاية، وقاطعه السلطان قائلا : في هذه الحال أعتبر القضية منتهية، هيا أقيموا الزينات وادعوا أهل المدينة إلى وليمتي، ليحتفلوا بزفاف السلطان .

اعداد : عبد الله أبو مدحت