كانت الحرب الباردة
أولا وفي المقام الأول حرب أفكار، وصراعا على المبدأ التنظيمي للمجتمع الإنساني،
ومنافسة بين الليبرالية والجماعية الإكراهية. وكانت الحرب الباردة بالنسبة
للولايات المتحدة أول تعاط متواصل للولايات المتحدة في سياسة الدول الكبرى، واقتضت
من الأميركيين أن تكون دوافعهم المتناقضة في مواجهة العالم الخارجي، دون أن يكلل
ذلك بالنجاح دائما: الرغبة في الوقوف جانبا ومساندة حرية الشعوب الأخرى - لأسباب
تتعلق بالإيثار من ناحية وبخدمة المصلحة الشخصية من ناحية أخرى.
مايكل جاي فريدمان كاتب في هيئة تحرير نشرة واشنطن ومؤرخ
دبلوماسي.
من الممكن القول إن
الحرب الباردة بدأت في العام 1917 بظهور روسيا كنظام بلشفي ثوري مكرس لنشر
الشيوعية في سائر أنحاء العالم. وكان تحقيق مثل هذه المكاسب بالنسبة لفلاديمير
لينين، زعيم تلك الثورة، أمرا ضروريا. وقد كتب في شهر آب/ أغسطس 1918 رسالة مفتوحة
إلى العمال الأميركيين قال فيها "إننا الآن، كما هو الحال، في قلعة محاصرة في
انتظار وصول فصائل جديدة للثورة الاشتراكية العالمية لإغاثتنا."
وقد فهمت الحكومات
الغربية بشكل عام الشيوعية كحركة عالمية قطع المناصرون لها على أنفسهم عهد الولاء
القومي الكامل للشيوعية عبر حدود الدول، ولكنهم تلقوا أوامرهم في الحقيقة من موسكو
التي دانوا لها بالولاء.
وفي العام 1918
انضمت الولايات المتحدة لفترة قصيرة وبدون حماسة تذكر إلى محاولة غير ناجحة
للحلفاء للإطاحة بالنظام السوفياتي الثوري. وبذلك تكون الشكوك والمشاعر العدائية
قد ميزت العلاقات بين السوفيات والغرب قبل أن تجعلهم الحرب العالمية الثانية حلفاء
مترددين في الصراع ضد ألمانيا النازية.
ومع هزيمة ألمانيا
في العام 1945 والانتشار الواسع للدمار الذي سببته الحرب في سائر أنحاء أوروبا،
مثلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي فلسفات وأهدافا وخططا متنافسة وغير
متوافقة لإعادة بناء وإعادة تنظيم القارة. وتصرف السوفيات من منطلق مزيج من
الالتزام الإيديولوجي والواقعية الجغرافية السياسية. وقد قام الجيش السوفياتي،
وفقا لأي رواية عادلة ونزيهة بمعظم القتال وتقديم الضحايا في الجبهة الأوروبية
وحرر من قبضة أدولف هتلر معظم أوروبا الشرقية والوسطى. واتضح بسرعة أن موسكو ستصر
الآن على وجود أنظمة شيوعية، ليس في تلك المناطق فحسب، بل أيضا بالنسبة للحكومات
الأخرى المرتبطة مباشرة بالسوفيات، بالرغم من رغبات البولنديين والتشيك، ناهيك عن
الرومانيين والبلغاريين وغيرهم من الأوروبيين الشرقيين.
وكان الموقف من
وجهة نظر واشنطن مختلفا تماما. فقد اعتقد الزعماء الأميركيون الآن بأن الانعزال
السياسي للولايات المتحدة عن أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى كان غلطة كبيرة
جدا، وربما أسهمت تلك الغلطة في صعود هتلر وأسفرت تقريبا عن هيمنة قوة عدائية
واحدة على القارة، مما قد يهدد الأمن القومي للولايات المتحدة. وبعد أن استقرت
القوات السوفياتية في نصف القارة، ومع القوة التي تمتع بها الشيوعيون في فرنسا
وإيطاليا، والأهم من ذلك في ألمانيا، وجد صانعو القرارات السياسة الأميركيون في ذلك
مبعثا للحذر.
وليس من الممكن أن
يكون التباين بين الولايات المتحدة التي تتسم بالليبرالية والفردية والانطلاق الحر
نسبيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي الاشتراكية ذات التخطيط المركزي والقمع السياسي
أكثر وضوحا، حين بدأت الدولتان التنافس على ولاء أوروبا والدول المستقلة حديثا من
السيطرة الاستعمارية.
الحرب الباردة في
أوروبا
اشتمل المجهود
الأميركي "لاحتواء" القوة السوفياتية ضمن حدودها لفترة ما بعد الحرب على
مرحلتين: المجهود الفوري لتنشيط أوروبا اقتصاديا وسياسيا، وبالتالي تعزيز قدرتها
واستعدادها لمقاومة المزيد من المكاسب السوفياتية، وبعد ذلك المحافظة في العصر
النووي على مصداقية الوعود الأميركية بالدفاع عن حلفائها الأوروبيين.
وأظهرت مبادرتان
مبكرتان تصميم الولايات المتحدة على إعادة بناء أوروبا غير الشيوعية والدفاع عنها.
وفي العام 1947، حين أبلغت بريطانيا واشنطن بأنه لم يعد باستطاعتها ماليا أن تدعم
حكومتي اليونان وتركيا ضد المتمردين الشيوعيين، حصل الرئيس هاري إس. ترومان (1945
- 1953) على 400 مليون دولار من أجل ذلك الغرض. والأكثر حسما وأهمية هو أن مبدأ
ترومان تعهد بالتزام مفتوح "لدعم الشعوب الحرة التي تقاوم الإخضاع من قبل
أقليات مسلحة أو من قبل ضغوط خارجية". وضخ مشروع مارشال في العام التالي
حوالي 13 بليون دولار من المعونة الاقتصادية في اقتصاديات أوروبا الغربية. وألزمت
منظمة حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، التي أسست في العام 1949، الولايات المتحدة
بالدفاع عن أوروبا الغربية في أول "تحالف معقد" رسمي لها، وهو وضع كان
الرئيس الأميركي الأول جورج واشنطن (1789 - 1797) قد حذر من مغبته.
وجاء حلف الناتو
ردا على التفوق العسكري التقليدي السوفياتي في أوروبا. وأجرت الولايات المتحدة في
نهاية الحرب العالمية الثانية أسرع تسريح للقوات المسلحة في التاريخ، حيث قلصت
جيشها من 8,3 المليون فرد تقريبا في العام 1945 إلى 500,000 بحلول العام 1948.
ولكن الجيش الأحمر حافظ على وجود عسكري أكبر بكثير في وسط أوروبا وكان يعتقد على
نطاق واسع أنه قادر على اكتساح أوروبا الغربية بسرعة إذا ما قرر ستالين أو من
خلفوه القيام بذلك. ولو أن ذلك قد وقع فعلا، فإن الخطط العسكرية الأميركية كانت
تدعو إلى الرد بالأسلحة الذرية، وفيما بعد بالأسلحة النووية، إلا أن حلفاء أميركا
الأوروبيين كانوا متخوفين بطبيعة الحال لأن العديد من تلك القنابل كانت ستسقط على
أراضيهم.
وعندما حصل
السوفيات على أسلحة ذرية (1949) وعلى أسلحة نووية (1953) تساءل أوروبيون كثيرون
عما إذا كانت أميركا ستدافع عنهم ضد هجوم سوفياتي إذا كانت موسكو قادرة بدورها على
شن حرب إبادة نووية على المدن الأميركية. فهل ستضحي واشنطن بنيويورك للدفاع عن
باريس أو لندن أو بون؟
لقد دار معظم الحرب
الباردة في أوروبا حول هذا السؤال. وكان الضغط السوفياتي على برلين الغربية - وهي
منطقة غربية داخل أوروبا الشرقية، وبالتالي فهي منطقة لا يمكن الدفاع عنها عسكريا
- كان يرمي إلى تذكير الأوروبيين الغربيين بخطورة وضعهم. وتؤكد جميع الردود
الأميركية على ذلك على الاعتراف الأميركي ببرلين كرمز مهم للصلة القائمة عبر
الأطلسي وتصميم الولايات المتحدة على الدفاع عن حلفائها الأوروبيين. وتشتمل تلك
الردود على الجسر الجوي لبرلين في العام 1948، والذي قام فيه سلاح الطيران
الأميركي بنقل الغذاء وغيره من المواد الضرورية لتلك المدينة التي كانت تخضع
للحصار السوفياتي، وتعهد الرئيس جون إف. كنيدي في العام 1963 "بأن جميع الناس
الأحرار، حيثما عاشوا، هم مواطنون في برلين ... "إخ بين أين برلينر"،
وتحدي الرئيس رونالد ريغان في العام 1987 "مستر غورباتشوف، حطم هذا الجدار".
وقد عبرت آخر أزمة
أوروبية كبيرة في الحرب الباردة عن محاولة سوفياتية أخرى لإحداث شرخ بين الحلفاء
الغربيين. وأنتجت موسكو في العام 1975 صواريخ إس إس-20، وهي أسلحة متوسطة المدى
دقيقة جدا وقادرة على إصابة أهداف في أوروبا الغربية ولكنها ليست قادرة على الوصول
إلى الولايات المتحدة. ودعا ذلك الأوروبيين الغربيين مرة أخرى إلى التساؤل عما إذا
كانت أميركا مستعدة للرد على هجوم على أوروبا وبالتالي تبدأ حربا نووية سوفياتية -
أميركية مدمرة للجانبين. وقرر حلف الناتو تصحيح التوازن عن طريق التفاوض مع
السوفيات حول إزالة جميع الأسلحة المتوسطة المدى، مع التعهد بتقديم صواريخ بيرشنغ
2 وصواريخ كروز تطلق من الأرض إلى أوروبا إذا لم تسحب موسكو صواريخ إس إس - 20 من
أوروبا.
وقد عارض أوروبيون
غربيون كثيرون هذه الإجراءات المضادة. وتصرفوا من منطلق طائفة من الدوافع
والمعتقدات، إلا أن الحركة الشيوعية العالمية ساعدت أيضا على تنظيم وتشجيع عناصر
ضمن "حركات السلام"، أملا في إرغام الأوروبيين الغربيين على قبول التفوق
العسكري السوفياتي سياسيا. وقد تم نشر الصواريخ الأميركية الجديدة بعد تصويت حاسم
في برلمان ألمانيا الغربية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1983.
وفي شهر كانون
الأول/ديسمبر، 1987 وقّع الرئيس رونالد ريغان (1981 - 1989) والسكرتير العام للحزب
الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف (1985 - 1991) معاهدة التخلص من الصواريخ
متوسط وقصيرة المدى. وكان عدم قدرة الاتحاد السوفياتي على إحداث شرخ بين الولايات
المتحدة وحلفائها الأوروبيين الغربيين عاملا حاسما في انتهاء الحرب الباردة.
الحرب الباردة في
"منطقة المحيط"
عبّر الدبلوماسي
الأميركي جورج كينان في العام 1947 عن الاستراتيجية الأميركية الأساسية للحرب
الباردة: "سياسة احتواء مصممة لمجابهة الروس بقوة مضادة لا تغيير فيها في كل
مرحلة يظهرون فيها إشارات اعتداء على مصالح عالم مسالم ومستقر". وقد تضاربت
هذه السياسة في حالات كثيرة، بل إنها على مر الوقت تغلبت على الرغبة الحقيقية
لواشنطن في دعم إنهاء الاستعمار والتحالف مع الدول المستقلة حديثا التي كانت آخذة
في الظهور في إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وهي منطقة أطلق عليها
"المحيط"، بحيث بقيت أوروبا الساحة المركزية للحرب الباردة.
وتوقع صانعو
القرارات السياسية الأميركيون عند انتهاء الحرب الباردة انهيار الإمبراطوريات
الاستعمارية الأوروبية وكانوا يأملون في كسب صداقة الدول الجديدة. لذا بذلت
الولايات المتحدة جهدا كبيرا للحيلولة دون إعادة سيطرة السلطة الهولندية على
إندونيسيا، حتى أنها هددت في العام 1949 بمنع مساعدات مشروع مارشال عن هولندا إلى
أن تعترف باستقلال إندونيسيا. ولأسباب مشابهة، أرغم الرئيس دوايت د. أيزنهاور
بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العام 1965 على إنهاء احتلال كل منها لقناة السويس
وشبه جزيرة سيناء.
ولكن لم يكن هناك
نمط ثابت للسياسة الأميركية في منطقة المحيط. ففي بعض الحالات، كالفلبين في العام
1986، أيدت واشنطن القوات الشعبية، حتى ضد أنظمة موالية للولايات المتحدة. وفي
حالات أخرى، لاحظ الزعماء الأميركيون بسرعة النفوذ الشيوعي وراء الحركات القومية،
كما لاحظوا الدول المعرضة "لنظرية الدومينو": حيث إذا "وقعت"
إحداها تحت النفوذ السوفياتي، تكون جاراتها معرضة لأن تحذو حذوها.
وتكمن "نظرية
الدومينو" هذه وراء معظم التدخلات الكارثية الأميركية في منطقة المحيط مثل
فيتنام. وبعد استسلام اليابان في العام 1945، قوبلت جهود فرنسا لإعادة سيطرتها
الاستعمارية في فيتنام بمقاومة كبيرة. وكان صانعو القرارت السياسية الأميركيون
يميلون إلى حث باريس على الانسحاب من الهند الصينية، كما كانوا قد ساعدوا في إرغام
الهولنديين على الانسحاب من إندونيسيا. إلا أن الزعماء الفرنسيين حذروا من أن
خسارتهم لإمبراطوريتهم قد تؤدي إلى وقوع فرنسا في أيدي الشيوعيين. ولم تكن واشنطن
مستعدة لتلك المخاطرة. وخطوة خطوة، بدءا بدعم الفرنسيين، ثم القيام تدريجيا بإرسال
مدربين أميركيين ثم قوات عسكرية - 550,000 منهم بحلول منتصف العام 1969 - بذلت
الولايات المتحدة الدم والمال في مجهود فشل في نهاية المطاف للحيلولة دون قيام
نظام حكم شيوعي في فيتنام الشمالية بالسيطرة على بقية البلاد.
ومع أن سجل
الولايات المتحدة في منطقة محيط الحرب الباردة لم يكن معصوما عن الانتقاد، فقد كان
منافسها السوفياتي نشطا أيضا في بذل الجهود لنشر نفوذه في سائر أنحاء العالم
الثالث، بدعم الدكتاتوريين والتدخل في الشؤون الداخلية.
منافسة طويلة الأمد
لقد فرضت
استراتيجية الاحتواء منافسة طويلة الأمد، أي ما وصفه الرئيس كنيدي (1961 - 1963) "بكفاح
الشفق الطويل". وكان ذلك شيئا جديدا بالنسبة لدولة كانت مشاركاتها الدولية
السابقة موجهة نحو التغلب على تحديات محددة وعاجلة.
وقد أثبتت الردود
الأميركية على ثلاث أزمات سابقة أن الحرب الباردة ليس من المحتمل أن تنتهي بانتصار
عسكري كاسح. وكان قرار الرئيس ترومان في العام 1951 بفصل الجنرال دوغلاس مكارثر من
الخدمة بمثابة قرار لشن الحرب الكورية للحفاظ على كوريا الجنوبية، وليس كما أراد
الجنرال، لتحرير كوريا الشمالية. وبعد خمس سنوات، لم يقدّم الرئيس أيزنهاور (1953
- 1961) على وجه التحديد دعما ملموسا عندما ثار الشعب المجري ضد حكومته التي فرضها
السوفيات وضد الجيش الأحمر الذي قمع ثورته.
وأخيرا فقد أثبتت
أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962 بوضوح أكبر حدود النزاع المباشر في العصر
النووي. وحاول السوفيات إدخال صواريخ متوسطة المدى بشكل سري إلى كوبا، مما شكّل
بوضوح تهديدا للبر الأميركي. ومع أن الولايات المتحدة كانت لا تزال تتمتع في هذه
المرحلة بتفوق ساحق في الأسلحة النووية، فإن الحرب الشاملة هددت بإلحاق أضرار غير
مقبولة. لذا أبرم الرئيس كنيدي مقايضة سرية، لم تعلن تفاصيلها حتى مرور سنين
عديدة. ففي مقابل قيام السوفيات بإزالة صواريخهم النووية من كوبا، وافقت الولايات
المتحدة على عدم التحرك ضد النظام الشيوعي لفيديل كاسترو هناك، وعلى سحب وإبطال
صواريخ أميركية "قديمة الطراز" بعد فترة معقولة من تركيا.
وبدا أن الدولتين
"الأعظم" تعلمتا دروسا مختلفة من أزمة الصواريخ الكوبية. ففي حين أن
الولايات المتحدة بحلول العام 1980 أرجأت معظم الزيادات الإضافية في الأسلحة
النووية، فإن السوفيات أطلقوا زيادة كبيرة في عدد الصواريخ ولم يقدّموا ما يشير
إلى أنهم يعتزمون إبطاء تلك العملية. وفي تلك الأثناء، أدى إدخال قوات مسلحة كوبية
في النزاعات الإفريقية في عقد السبعينيات من القرن الماضي والغزو السوفياتي
لأفغانستان في العام 1979 - وهو أول استخدام مباشر للجيش الأحمر خارج أوروبا
الشرقية - إلى إقناع كثير من الأميركيين بأن الحرب الباردة لم تنته بعد. .
الحرب الباردة
تنتهي
لا زالت أسباب
انهيار الاتحاد السوفياتي موضع نقاش ساخن حتى اليوم. ومع ذلك، فإن من الممكن عرض
بعض الملاحظات. إحداها هي أن البناء العسكري الضخم الذي أمر به الرئيس ريغان أدى
إلى ارتفاع تكاليف السوفيات للمحافظة على قوتهم العسكرية النسبية. ومن الملاحظات
الأخرى أن درع دفاع الصواريخ "حرب النجوم" الذي اقترحه ريغان هدد بنقل
المنافسة إلى التفوق في التكنولوجيات الجديدة، وهو مجال لم يكن الاتحاد السوفياتي
- كمجتمع مغلق - مؤهلا للتنافس فيه.
وكان الاقتصاد
السوفياتي الرئيسي يتعثر بالفعل. ومهما كانت قدرة النموذج الشيوعي على التصنيع
بنجاح فإن العالم الجديد الناشىء لتكنولوجيات المعلومات وضع تحديات لا يمكن التغلب
عليها لمجتمع يراقب مواطنيه عن كثب ويشرف حتى على استخدامهم لآلات تصوير النسخ.
وقد أدرك ذلك الزعماء الذين يتمتعون ببعد النظر كالسكرتير العام غورباتشوف. وقد
أدت الإصلاحات التي قدّمها، ولكنه لم يتمكن من السيطرة عليها في نهاية الأمر، إلى
انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.
ومن وجهة النظر
الأميركية فقد مثّل الصراع الذي استمر 40 عاما انتصارا للأفكار. وقد دفعت الولايات
المتحدة الثمن، بل عددا من الأثمان الباهظة جدا، لانتصارها. والشيء الأكثر وضوحا
هو التضحيات الضخمة في الحياة التي لا تعوّض التي فقدت في ساحات المعارك والأموال
التي أنفقت على الأسلحة لقوة لا يمكن تصورها بدلا من إنفاقه على قضايا أكثر نبلا
وأشد حاجة داخل البلاد وخارجها. كما كانت هناك تكاليف سياسية. فقد أجبرت الحرب
الباردة الأميركيين أحيانا على تحالف دولتهم مع أنظمة سيئة السمعة باسم المصلحة
الجغرافية السياسية.
ولكن تحققت رغم ذلك إنجازات حقيقية في أميركا خلال فترة
الحرب الباردة. وأكثرها وضوحا أنه تم إنقاذ أوروبا الغربية، وأجزاء ضخمة من العالم
دون شك، من الخضوع لجوزيف ستالين، وهو دكتاتور مجرم يصعب تمييزه عن أدولف هتلر
المهزوم. ولا يقل أهمية في عصر الأسلحة النووية الحرارية أن الدول التي خضعت
لهيمنة الاتحاد السوفياتي قد تحررت دون اللجوء إلى حرب شاملة مدمرة بشكل غير
مسبوق. وخرجت المؤسسات الديمقراطية الأميركية من الحرب الباردة غير منقوصة - بل
ومزدهرة - كما أن النموذج الأميركي للتنظيم الاجتماعي، الذي يوفر للفرد الحرية
السياسية والدينية والاقتصادية للسعي لتحقيق أحلامه، حافظ على حيويته فيما دخلت
البلاد الألفية الجديدة.
تحويلتحويل تعبيراتتعبيرات